تمثل القوى البشرية أساس كل تنمية وتطور، ولا نستطيع أن نتصور مجتمعًا استغل طاقته وموارده الطبيعية الاستغلال الأمثل دون طاقات بشرية تسخر هذه الموارد الطبيعية بما يفيد المجتمع، فالعناية بالطاقة البشرية هي السبيل الوحيد لاستغلال الثروات الطبيعية في المجتمع.
وإذا كانت القوى البشرية المؤهلة تربويًا وأكاديميًا ومهنيًا للعمل الإبداعي وزيادة الإنتاج هي أساس القوة والتميز في عمليات التنمية الاجتماعية والاقتصادية المتواصلة في المجتمعات التي تحاول أن يكون لها مكان مأمون ومأمول في ظل متغيرات العصر الحديث الذي يموج بثوراته المعلوماتية والتكنولوجية والاتصالية فيما يسمى بعصر الموجة الثالثة وتداعياتها الكونية، فإن النظام التربوي والتعليمي الذي يبدأ من رياض الأطفال هو الأداة الرئيسة لتكوين الموارد البشرية وتحريك طاقاتها الإبداعية الكامنة، وبالتالي فإن الأمر يقتضى ضرورة الاهتمام بأساس البناء الإنساني الذي يبنى في مرحلة الطفولة المبكرة التي تمثل مجال عمل مؤسسات رياض الأطفال فكرًا وممارسة.
الاهتمام بالأطفال هو اهتمام بالمستقبل، حيث أصبحت العناية بالأطفال من العلامات البارزة لرقي الشعوب والأمم ومظهرًا من مظاهر تقدمها وتطورها، فالطفل تتشكل شخصيته في السنوات المبكرة لعمره. لذا كان الاهتمام بهذه السنوات الأولى واجبًا وطنيًا وإنسانيًا في آن واحد.
ولا يوجد طفل دون موهبة، فالله خلق الإنسان وغرس فيه بذورًا طيبة ومفيدة في أعماق كل طفل، فالموهبة هبة من الخالق. فهي فطرية تخلق مع الإنسان وتبدأ مؤشرات وجودها من السنوات الأولى من عمر الطفل، والمهم هو اكتشافها والاستفادة منها لخدمة الإنسان وسعادته.
والموهوبون في كل مجتمع هم الثروة القومية، وهم الطاقة الدافعة نحو الحضارة والتقدم والبناء، وهم ذخيرة الوطن ومنابع سعادته، وهم عدة الحاضر وقادة المستقبل في شتى الميادين والمجالات، في العلوم والفنون والآداب والاقتصاد، فعن طريقهم ازدهرت الحضارة وتقدمت الإنسانية وخطت خطوات واسعة إلى الإمام، لذا أصبح الاهتمام بهم ورعايتهم واستثمار طاقاتهم الإبداعية ضرورة حضارية، خاصة في مواجهة تحديات التنافس الثقافي والتسابق الحضاري بين المجتمعات.
ويرى التربويون أن عملية الكشف عن الموهوبين يجب أن تتم في مرحلة مبكرة من حياتهم ؛ لأن في ذلك ما يساعد على توفير الخدمات والبرامج التربوية والتعليمية المناسبة لهم لتحقيق أكبر قدر ممكن من النمو في القدرات والإمكانات لديهم.
إن الكشف عن الموهبة وتعاهدها بالحماية والرعاية والتنمية منذ الطفولة الباكرة هو اتجاه حديث لم تأخذ به الدول والمجتمعات إلا مؤخرًا، ولم يكن يحدث من قبل إلا بصورة فردية، ومن جانب بعض الآباء والمعلمين المستنيرين، ولكي توضع الجهود في رعاية الأطفال الموهوبين على الطريق الصحيح فنحن بحاجة إلى وسائل دقيقة تعيننا على الكشف عن هؤلاء الموهوبين وتمييزهم عن غيرهم من الأطفال العاديين، وإننا كلما أسرعنا بالكشف عن مواهب الأطفال في مراحل الطفولة المبكرة كان ذلك أفضل من الناحية العملية فالاهتمام بالطفولة منذ بدء الحمل وخلال الطفولة المبكرة، وتوفير الرعاية بجميع أبعادها للأطفال يؤدي إلى اكتشاف المواهب وتنميها لدى الأطفال.
والطفل ذو الاحتياجات الخاصة أولى بأن نوجه إليه الاهتمام من أجل منحه دفعة غير عادية على طريق النمو والارتقاء، حيث إن الطفل أيًا كانت احتياجاته يشعر بأن شيئًا ما يقف في طريق نموه ويقعده عن التعبير عن نفسه بصورة كاملة، ومن ثم فإنه محتاج لأن يبذل جهدًا مضاعفًا ليعوض ما به من نقص، فضلًا عن أن الطفل ذو الاحتياجات الخاصة، يحتاج إلى استثمار كل طاقة متاحة من أجل الوصول إلى أفضل موقع يمكنه من خلاله التعامل مع معطيات الواقع الذي يزداد كل يوم تنوعًا وتعقيدًا.
والاهتمام بالأطفال الموهوبين من المعاقين هو اهتمام حديث نسبيًا يحاول إلغاء الخطأ من أن الموهبة توجد لدى الأشخاص غير المعاقين فقط، ولقد أثبتت الدراسات أن هناك نسبة من الأطفال المعاقين وقدرها البعض بحوالي 2% لديهم موهبة ولكنهم لا يحظون بالاهتمام الذي حظي به أقرانهم الموهوبين من غير المعاقين.
فالموهبة موجودة لدى الفرد حتى مع وجود الإعاقة، وقد يكون أحد الأشخاص معاقًا ولديه مواهب متعددة، وتظهر في مجالات مختلفة سواء كانت فنية أو رياضية أو اجتماعية أو سياسية وغيرها، فالأمر يتطلب أن نبحث عن القدرات والمواهب والإبداع عند الجميع بغض النظر عن العجز أو الإعاقة لدى الفرد.
وتشير بعض البحوث والدراسات السابقة في مجال رعاية الأطفال الموهوبين إلى العديد من النتائج، أهمها:
1- إن أغلب الأطفال الموهوبين يتم الكشف والتعرف عليهم بعد دخولهم المدرسة مما يضيع فرصة التدخل المبكر في تنمية مهارات الطفل الموهوب.
2- إن برامج ما قبل المدرسة ما يزال يغلب عليها النمط التقليدي الذي نادرًا ما ينتج إبداعًا.
3- قصور المناهج والمعلمين والعملية التعليمية على فهم طبيعة الطفل الموهوب وتحديد حاجاته تمهيدًا لإشباعها وتعهدها بالرعاية اللازمة.
4- عدم توافر المعلمين المدربين للعمل في مجال التفوق والمواهب الخاصة.
5- لا يحظى الطفل المعاق الموهوب بالاهتمام بدعوى أن هؤلاء الأطفال عاجزون أو معاقون، مع أن العديد من هؤلاء الأطفال لديهم من القدرات والمواهب التي تؤهلهم للتفوق على أقرانهم الأسوياء في بعض الأحيان، فالأطفال ممن لديهم صور مختلفة من الإعاقة قد لا يكونون قادرين على الرؤية أو السمع أو السير، ولكن هذا لا يعني أنهم ليسوا موهوبين، ولكن يعني أنهم ينتظرون الفرصة المناسبة لإظهار مواهبهم الخاصة والخروج بها إلى النور.
6- إن المعاقين بما عوضهم الله عز وجل وبما أعطاهم من مواهب وقدرات خاصة – إذا أحسن استخدامها عن طريق التربية والتعليم والتأهيل – قادرون بفضل الله على أداء أعمال تناسبهم وتعود عليهم وعلى أسرهم ومجتمعهم بالخير، وكذلك تظل مشكلة إعداد الكوادر المتخصصة في مجال التربية الخاصة قائمة، فعلى الرغم من وجود مؤسسات خاصة بإعداد معلم ذوي الاحتياجات الخاصة، إلا أنه لا يوجد إعداد لفئة معلمي الموهوبين أو المتفوقين في كليات التربية على مستوى البكالوريوس في العديد من الدول العربية.
وفي عالمنا العربي ورغم الاهتمام الملحوظ برعاية الطفولة خلال السنوات الأخيرة، كاعتراف بديهي بأن الاهتمام بالطفولة هو اهتمام بصناعة البشر ومستقبل الوطن، إلا أن الاهتمام بالأطفال الموهوبين خاصة قبل المدرسة لا يرقى إلى مقابلة مثل هذا الاهتمام الرسمي بالطفولة، فنحن لا نهتم بالموهوبين، مع أن الاهتمام بهم يدخل في صميم استثمار وصناعة مستقبل المجتمع، لأنهم علماء المستقبل ومفكروه وصانعو حضارة المجتمع.
ومن الملاحظ أن معظم النظم التعليمية العربية لا توفر الرعاية الكاملة للموهوبين من أطفالنا سواء في الجانب الاجتماعي أو التربوي أو النفسي، بالإضافة إلى أن تركيز الاهتمام بالمتفوقين فقط مازال موجودًا في صورة فصول للمتفوقين في بعض المدارس الثانوية، بينما الاهتمام بالموهوبين في شتى مجالات ومستويات الموهبة سواء كانت (ذكاء – ابتكار – تحصيل – رياضية – فنية – مهارية…إلخ) ما زال بعيدًا عن بؤرة الاهتمام المجتمعي بوجه عام والتربوي بوجه خاص، في الوقت الذي يحظى فيه الموهوبون في الدول المتقدمة بعظيم الاهتمام من حيث وسائل التعرف عليهم، وتقديم برامج الرعاية التربوية المتكاملة والمتواصلة لتنمية مواهبهم وطاقتهم الإبداعية، وتهتم الدول المتقدمة برعاية وتنمية الأطفال الموهوبين حيث تصمم وتطور برامج تربوية مناسبة تكشف عن قدراتهم الكامنة وتحقيق ذواتهم الإبداعية والابتكارية.
ولقد أشار تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002م إلى أن المجتمع يجب أن يوفر لكل أطفاله فرصًا تعليمية، ويجب أن تكون مؤسسات تعليم الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة بيئة متكاملة توفر للطفل مجالًا للعب والتعلم والنماء الجسدي وتنمية الحواس والتكيف مع الجماعة، وتبرز قدراته الفكرية والعاطفية والاجتماعية، كما يجب إعادة صياغة النسق التعليمي بهدف التعرف على المواهب ورعايتها، مع إدخال برامج خاصة لمجموعات الأطفال الذين يبدون موهبة واضحة وليس عزلهم.
ولقد اهتمت دول العالم في بداية العقد الأول من الألفية الثالثة بالموهبة الإنسانية وأهمية تنمية المواهب لدى الأفراد حتى تتمكن من مسايرة التقدم العلمي والتقني المذهل في جميع المجالات وحتى تتمكن أيضًا من تحقيق الجودة المطلوبة للمنافسة العالمية.
ففي اليابان التي تتميز بالتفوق في التنمية البشرية تقدم الدولة لأطفال الروضة ستة موضوعات أساسية هي : الصحة، المجتمع، الطبيعة، اللغة، الموسيقى، الفن، ولقد وصلت اليابان إلى ما وصلت إليه من خلال إرساء سياسة تعليم هدفت في المقام الأول إلى بناء الإنسان على أساس تعليمي تحفيزي يصل به إلى أقصى كفاءة ممكنة، بحيث تحول المجتمع الياباني كما يقول «تورانس»
(Torrance) إلى مجتمع مكون من 115 مليونًا من فائقي الإنجاز.
إن تكوين العقل الياباني لم يكن بشعارات أو خطب أو تصريحات، وإنما كان بتهيئة المواطن الياباني منذ طفولته وإعداده خلقيًا واجتماعيًا وجسميًا وعقليًا، ليكون عضوًا في مجتمع هو الآن يتحدى العالم.
وبموجب قانون التعليم المدرسي عام 1947م يتمثل الغرض من إنشاء مدارس التربية الخاصة في اليابان في تقديم نفس المستوى التعليمي الذي تقدمه عادة مدارس الحضانة ورياض الأطفال والمدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية ويتمثل أيضًا في تزويد الأطفال بالمعرفة والمهارات العلمية بما يعوضهم عن العجز الذي يعانون منه، والاهتمام بالأطفال الموهوبين في اليابان قائم على تنمية مواهب وقدرات الطفل قبل سنوات الالتحاق بالمدارس، حيث تثار وتوجه دوافعه بحماس لإظهار مهاراته الابتكارية.
وفي إنجلترا توجد جهود خاصة بذوي المواهب الفنية كالموسيقى، حيث توجد مدارس لتنمية القدرات عند الموهوبين، كما توجد مدرسة «بيلين» (Belin ) لتعليم الموهوبين الذين يتصفون بقدرات خاصة، حيث تقدم هذه المدرسة مجموعة من البرامج هي:
– برنامج Success نجاح: وهو برنامج أكاديمي تجريبي يقدم لفصلين من فصول المدرسة بداية من عام 1999م، ويقوم بتنفيذه مركز تعليم الموهوبين، وجامعة كالجري UNIVERSITY OF CAGARY بالتعاون مع بعض المراكز العلمية بجامعة أيوا الأمريكية.
– برنامج إدراكات Perceptions لتزويد الموهوبين بخبرات متميزة ومبدعة.
– برنامج عجائب الكون Wonders of the Universe حيث ينخرط الموهوبون في مواقف حية ومجسدة من خلال مناشط عملية.
وتستعين هذه المدرسة بالخبرات العلمية من مؤسسات بحثية وجامعية ومجتمعية.
وفي ألمانيا تعتبر دور الحضانة ورياض الأطفال دعمًا للتربية داخل الأسرة واستكمالًا لها، وترمي إلى سد النواقص في نمو الشخصية كي يحصل الأطفال على أفضل فرص التعليم والتطور، ويتم التعليم، في المجال الأول، عن طريق اللعب، كما تقام دروس التربية الفنية والرقص والغناء والرياضة والموسيقى والتربية العملية… ولدى ظهور موهبة عند الأطفال، فإنهم يتابعون الدراسة في ذلك الميدان.
وتعد مدرسة «مانهايم» (Mannheim) من أولى المدارس التي أنشئت في ألمانيا لرعاية الموهوبين، وقد أعيد تنظيمها في الفترة من (1895 – 1923م)، كما زاد الاهتمام بالموهوبين في ألمانيا منذ عام 1978م حيث قامت مجموعة من علماء النفس والمعلمين وأولياء الأمور بتأسيس الجمعية الألمانية لرعاية الأطفال الموهوبين، وفيما يجسد اهتمام الدولة بالموهوبين أيضًا أنشئت مدارس خاصة بالموهوبين منها على سبيل المثال مدرسة «كرستوفر». حيث تتيح هذه المدرسة الفرصة للموهوبين في جميع مجالات الموهبة (الأكاديمية – الفنية – الرياضية) أن يتلقوا خبرات تعليمية إضافية مختلفة بما يتناسب وموهبة كل طالب.
وفي مجال رعاية الموهوبين يجب الاستفادة من الخبرات والتجارب العالمية عن طريق وضع هذه الخبرات تحت نظر العاملين في هذا المجال لاختيار ما يصلح منها لمجتمعاتنا وما يتفق مع ظروفنا، وذلك من أجل الوصول إلى مستوى أفضل لتعليم هؤلاء الأطفال، ومن ثم وصولًا إلى تقدم المجتمعات، وهذا يتطلب توفير التنظيمات الإدارية، واعتماد المخصصات المالية، وتوفير المباني المناسبة والمناخ التربوي السليم، وتصميم وبناء أنشطة وبرامج خاصة بهؤلاء الأطفال، والإعداد الجيد للمعلمين والمعلمات، وبهذا تتمكن المجتمعات من استغلال قدرات هؤلاء الأطفال ودفعهم في كل مظاهر التطور الإنساني.
التوصيات
– استغلال مرحلة ما قبل المدرسة في تربية القدرة على الإبداع، وذلك نظرًا لما للتربية في سن مبكرة من أهمية في أي أمر ترغب بتعليمه وصياغته عند الأطفال.
– الاهتمام باكتشاف وتنمية الموهوبين واستثمار طاقاتهم كمصدر من أهم مصادر الثروة البشرية.
– يجب العمل على اكتشاف المواهب في مرحلة مبكرة من عمر الفرد، لأن الفرص تقل في المراحل التالية، وتصعب إمكانية وصول الموهبة لأقصى قدراتها.
– إن رعاية الموهوبين وحسن توجيههم يعد أفضل أنواع الاستثمار في رأس المال البشري، ومن ناحية أخرى فإن إهمالهم يعد امتهان لمبدأ تكافؤ الفرص التعليمية.
– توجيه النظر إلى أهمية رعاية الموهوبين من الأطفال فهم ثروة لا تقدر، ويجب توجيهها، لأنها إذا أهملت فلن تفقد فحسب، بل قد يصبح الموهوب في المجتمع الذي يتكيف معه شخصًا معاقًا ضرره أكثر من نفعه في بعض الأحيان.
– الاهتمام بالأطفال المعاقين الموهوبين قبل المدرسة باعتبارهم أطفالًا غير عاديين بصورة مزدوجة (ذوي حاجات خاصة، ذوي قدرات خاصة)، يحتاجون إلى تربية خاصة تلبي احتياجاتهم وتكشف عن قدراتهم ومواهبهم وتنميتها إلى أقصى طاقاتها.
– إنشاء شعبة خاصة لإعداد معلمي الموهوبين والمتفوقين في كليات التربية، وإنشاء دبلوم مهنية متخصصة – بعد الدرجة الجامعية الأولى – في رعاية المتفوقين وسيكولوجية التفوق.
– العمل على إثراء برامج إعداد المعلم «قبل الخدمة» لتخريج المعلم القادر على اكتشاف الموهبة، بالإضافة إلى إنشاء شعبة لتخريج المعلم المتخصص في التعامل مع الموهوبين.
– تقديم البرامج والدورات التدريبية للمعلمين من أجل إعدادهم لاكتشاف القدرات الابتكارية لدى الموهوبين والمتفوقين في جميع المراحل التعليمية.
بقلم : د. محمد العطار – الباحة 2014-10-30 6 /1 /1436
التعليقات 1
وفاء
01/09/2016 في 8:42 م[3] رابط التعليق
السلام عليكم انا معلمة موهوبين في المرحله الابتدائيه وارغب التحويل لمرحلة رياض الاطفال فكيف الطريقه
علماً باني معلمه في مدينة الرياض وارغب بمعرفة الطريقه واسماء الروضات